مشروع كفالة الكتب الصوتية أكفل كتابا صوتيا يكون لك صدقة جارية وتنفع به المسلمين التفاصيل تجدونها في صندوق الوصف تم إنتاج هذا الكتاب صدقة جارية على روح دكتور أبو العطى النادي أبو العطى غفر الله له ولجميع المسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قناة صوت فصيح تقدم لكم هذه النسخة الصوتية من كتاب محاسن الإسلام الذي كتبه الشيخ أحمد السيد حفظه الله وتقبل منه ورفع درجته في عليين ولمن عجز عن القراءة أو من لها أو ذلك المحب للاستماع نقدم له هذه المادة الصوتية التي حرصنا فيها على مراعاة آذان السامعين فمن الاهتمام بالنطق السليم والمخرج الصحيح إلى إتقان عملية التسجيل والهندسة الصوتية سائلين المولى عز وجل أن يسد بنا ثغرى وأن ينفع بنا الأمة الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وصل اللهم ربنا وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أما بعد فإن من طلب شيئا بعد شقةه لابد تلحقه مشقته فلابد له من معرفته ومعرفة منافعه ليحمله ذلك على تحمل المشقة وقطع الشقة فهذا حملني عند ضعفي وكبر سني على أن أتفحص من محاسن الإسلام والشرائع فأبرز في كل أمر مشروع من سر حسن مطبوع على وجه يرضاه من دان الإسلام إذا أنصف من عقله ولم يظهر العناد من فعله وقوله بهذه الجملة قدم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري كتابه محاسن الإسلام وشرائع الإسلام وهو يتحدث هنا عن الأثر الحسن لذكر محاسن الإسلام على المسلمين أنفسهم لما ذكره من أن من سار في طريق طويل شاق فإنه يحتاج إلى أن يعرف منافع سلوك هذا الطريق لكي يتحمل المشقة ولا تقل مخاطبة غير المسلمين بمحاسن الإسلام أهمية عن مخاطبة المسلمين بها فإن غير المسلمين إذا عرفوا محاسن هذا الدين الذي يدعون إليه ورأوا عظمته وأدركوا بهاءه وتميزه وخصائصه العظيمة فإنهم يدخلون فيه محبين مقتنعين مسارعين إلا من منعه هواءه ونحن اليوم نعيش صراعا في الأفكار والثقافات والأديان وانفتاحا في سوق الأفكار فالبضائع الفكرية تقدم وتعرض ويدعى لها بكل وسائل الدعوة والتسويق حتى صار بعض المسلمين يقع في نفسه شيء من الحرج أو الشك أو الحيرة تجاه بعض الأحكام الشرعية لذا كانت الحاجة الآن ماسة إلى الحديث عن محاسن الإسلام مناهج المؤلفين في تناول موضوع محاسن الإسلام قبل أن أبدأ بالنظرات والقضايا المنهجية المتعلقة بمحاسن الإسلام أشير على وجه الاختصار إلى مناهج الكتاب والباحثين في تناول موضوع محاسن الإسلام فإن مسالك من كتب في هذا الباب متعددة ومتنوعة ومن أهمها ما يلي المسلك الأول تناول محاسن الإسلام على طريقة أبواب الفقه وممن سار على ذلك الإمام أبو بكر محمد بن علي القفال رحمه الله في كتابه محاسن الشريعة فنجد أنه تناول باب ذكر ما يوجب طهارة الوضوء باب ذكر ما يوجب طهارة الاغتسال باب ذكر المسح على الخفين باب ذكر طهارة التيمم باب ذكر النجاسات إلى آخره ثم كتاب الجنائز باب ما يعمل به في الموتى قبل الغسل ثم كتاب الحج ثم الزكاة ثم الطعام والشراب واللباس والزينة والأيمان والكفارات إلى آخره وأي دارس للفقه يرى التطابق بين عنوين هذه الأبواب وعناوين كتب الفقه غير أن هذا كتاب في المحاسن والمقاصد وممن سار على ذلك أيضا عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري رحمه الله المتوفى سنة 546 للهجرة في كتابه محاسن الإسلام وشرائع الإسلام فقد صنفه على مواضيع كتب الفقه فذكر كتاب الوديعة ومحاسنها كتاب البيوع ومحاسنة كتاب الصلح ومحاسنة كتاب الدعوى ومحاسنها كتاب الإجارات ومحاسنها كتاب الوكالة والكفالة ومحاسنها كتاب الهبة كتاب الوصايا كتاب الأشربة كتاب الشهادات محاسن القضاء إلى آخره ومما يلاحظ على ما كتب في هذا المسلك أنه لا يتناول محاسن الشريعة الكلية بل يركز على محاسن الفروع المسلك الثاني العرض الشمولي لمحاسن الإسلام والمقصود بهذا المسلك تناول محاسن شرائع الإسلام وعقائده وأخلاقه دون اكتفاء بالتشريعات العملية وحدها وممن كتب في ذلك من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في كتابه الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي لكن هذا الكتاب ليس في القوة الاستدلالية القاطعة لتشكيكات المشككين بل هو عرض للموضوع بصورة سهلة ميسرة نافعة للمبتدئين في القراءة وصغار السن فهو كتاب يحسن أن يربع عليه النشء في الحلقات القرآنية ونحوها وقد بيّن الشيخ بن سعدي في بداية كتابه الثمرات التي تترتب على الحديث عن محاسن الإسلام منوعا فيها بين ما يرجع إلى المسلمين وما يرجع إلى غيرهم وذكر أن الحديث عن محاسن الإسلام من أكبر أبواب الدعوة إلى الإسلام دون الحاجة إلى إبطال شبه المخالفين فهو في نفسه يدفع كل شبهة تعارضه المسلك الثالث إبراز محاسن الإسلام في جانب معين من جوانبه التشريعية أو الأخلاقية أو الاعتقادية ومن المؤلفات في ذلك الجانب الأخلاقي كتب فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله كتابه دستور الأخلاق في القرآن وقد تناول فيه النظرية الأخلاقية الإسلامية بشكل عام وقارنها ببعض النظريات الأخلاقية الفلسفية الأخرى وفي آخر الكتاب أفرد آيات القرآن التي تشكل المنظومة الأخلاقية الإسلامية الجانب الاعتقادي كتب فيه الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله في جمالية الدين معهرج القلب إلى حياة الروح وهذا الكتاب من أفضل ما كتب في محاسن اعتقادات الإسلام بل هو في رأي من أفضل ما كتب في محاسن الإسلام بوجه عام وقد تناول في هذا الكتاب جماليات التوحيد وجمالية مفهوم الإله في القرآن واللغة والعلاقة التي تحكم تعبد الإنسان لخالقه سبحانه وجمالية التعريف القرآني بالله سبحانه وجمالية عقيدة اليوم الآخر والإيمان بالغيب والموت والحياة الآخرة إلى آخره وهناك أيضا رسالة مختصرة نافعة للدكتور أحمد بن عثمان المزيد بعنوان محاسن العقيدة الإسلامية الجانب التشريعي وأعني به جانب الأحكام العملية التي اصطلح على تسميتها بأبواب الفقه وفيه الكتابان الذين أشرت إليهما سابقا كتاب القفال وكتاب البخاري المسلك الرابع الكتابة عن محاسن الإسلام مقارنة بغيره من الديانات أو الأفكار المعاصرة في عموم الأبواب أو في جانب معين ومن أبرز من كتب في ذلك علي عز بيكوفيتش رحمه الله في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب ومن الكتب المشهورة أيضا في هذا المجال كتاب أبي الحسن الندوي رحمه الله ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين وهو إن لم يكن صريحا في محاسن الإسلام إلا أنه حرص فيه على المقارنة بين الإسلام وبين الجاهلية في زمنها القديم والحديث وقد كتب محمد سعيد البوطي المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني وختاما فإنني لم أجد من تناول هذا الباب بصورة تأصيلية تعين على تكوين نظرة منهجية شمولية يتوصل بها إلى حجاج المخالفين على وجه متين ولذلك فإني سأركز على الأصول والكليات التي ينطلق منها إلى الحديث عن محاسن الإسلام فلن أستعرض في هذا الكتاب المحاسن التفصيلية للطهارة والصلاة والنكاح والطلاق وسائر الأحكام الشرعية كما أني لن أستعرض تفاصيل الأمور الاعتقادية في الإسلام ومحاسنها وقد أعرج على شيء من ذلك فالعرض في هذا الكتاب ليس استقصائيا للمحاسن وإنما هو نظرات وقضايا منهجية يتوصل بها إلى إحكام الحديث عن محاسن الإسلام والله المستعان القضايا المنهجية المتعلقة بمحاسن الإسلام القضية المنهجية الأولى النظرة الكلية للإنسان والكون والوجود إن هذا الدين العظيم لا تفهم محاسنه ولا يتوصل إلى جمالياته إلا بإدراك نظراته الكلية للكون وللوجود وللدنيا وللآخرة وللإنسان وما وراء وجوده على هذه الأرض وإذا تأملت كثيرا مما يثار من الاستشكالات والاعتراضات ضد أحكام الشريعة فستجد أنها منبعثة من تجزئة النظر إلى الإنسان أو إلى الحياة والوجود وناشئة من عدم فهم التكامل المراعى في تشريعات الإسلام والذي يتجاوز إطار المادة الضيق إن الله حين شرع للناس خمس صلوات في اليوم والليلة وأمرهم بأداء الصدقة للفقراء وفرض عليهم الإمساك عن الطعام في رمضان وكتب عليهم الحج إلى مكة لم يشرع هذه الأعمال لتكون حزمة من الواجبات يؤديها الإنسان دون إدراك لما تحققه من مقاصد وغايات وحكم عظيمة مرتبطة بعلاقة الإنسان بربه سبحانه ألم يقل الله سبحانه وأقم الصلاة لذكري أي لتذكرني فيها فالمسلمون يقيمون الصلاة ليتذكروا الله جل وعلا وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج إنما جعل الطواف بالكعبة وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله أخرجه أبو داود والترمذي وتأمل معي هذا الكلام الكاشف عن عمق هذه القضية المنهجية إن الإسلام وهو يتولى تنظيم الحياة الإنسانية جميعا لم يعالج نواحيها المختلفة جزافا ولم يتناولها أجزاء وتفاريق ذلك أن له تصورا كليا متكاملا عن الألوهية والكون والحياة والإنسان يرد إليه كافة الفروع والتفصيلات ويربط إليه نظرياته جميعا وتشريعاته وحدوده وعباداته ومعاملاته فيصدر فيها كلها عن هذا التصور الشامل المتكامل ولا يرتجل الرأي لكل حالة ولا يعالج كل مشكلة وحدها في عزلة عن سائر المشكلات ومعرفة هذا التصور الكلي عن الإسلام تيسر للباحث فيه فهم أصوله وقواعده وتسهل عليه أن يرد الجزئيات إلى الكليات وأن يتتبع في لذة وعمق خطوطه واتجاهاته ويلحظ أنها متشابكة متكاملة وأنها كل لا يتجزأ وأنها لا تعمل عملا مثمرا للحياة إلا وهي متكاملة الأجزاء والاتجاهات وطريق الباحث في الإسلام أن يتبين أولا تصوره الشامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان قبل أن يبحث عن رأيه في الحكم أو رأيه في المال أو رأيه في علاقات الأمم والأفراد فإنما هذه فروع تصدر عن ذلك التصور الكلي ولا تفهم بدونه فهما صحيحا عميقا انتهى قوله ثم نبه إلى المصدر الصحيح لاستقاء هذه النظرة الشمولية فقال والتصور الإسلامي الصحيح لا يلتمس عند ابن رشد أو عند ابن سينة أو الفارابي وأمثالهم ممن يطلق عليهم وصف فلاسفة الإسلام ففلسفة هؤلاء إنما هي ظلال للفلسفة الإغريقية غريبة في روحها عن روح الإسلام وللإسلام تصوره الأصيل الكامل يلتمس في أصوله الصحيحة القرآن والحديث وفي سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته العملية وهذه الأصول هي حسب أي باحث متعمق ليدرك تصور الإسلام الكلي الذي يصدر عنه في كل تعاليمه وتشريعاته ومعاملاته انتهى وهذه هي القضية المنهجية الأساسية لإدراك محاسن الإسلام وبدونها فلا يمكن أن تفهم محاسن تشريعات الإسلام القضية المنهجية الثانية فهم حقيقة التعبد في الإسلام إن إدراك محاسن الإسلام لا يتم إلا بفهم حقيقة التعبد لله سبحانه وتعالى ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بالإدراك العميق لنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك أو بالنظر في كلام علماء المسلمين الذين عتنوا بإبراز تلك الحقيقة بعد تتبعهم لنصوص الوحيين ثم بالعمل على ضوء هذه الحقيقة دون الاكتفاء بالفهم النظري إن النظر إلى التعبد في الإسلام على أنه ممارسات وطقوس دون خضوع القلب وتذلله وحبه للمعبود أو على أنه خوف ورهبة وفزع ورعب دون حب ورجاء أو على أنه حب وفناء وعشق دون هيبة وخضوع وخوف من المعبود كل هذا لا يؤدي إلى الفهم الحقيقي لقضية التعبد في الإسلام إن للعبودية في الإسلام جمالاً يوقف الإنسان على شاطئ الكون مندهشاً بأنوار الحقائق الكبرى التي تنفتح له وإن عدم تذوق جمالية التعبد والخضوع والمحبة لله سبحانه لمن أكبر أسباب التأثير بالشبهات المثارة ضد وجوده وكماله سبحانه ومن ثم الوصول إلى الإلحاد والإنكار وها هنا تجربة فريدة في هذا المجال لعالم فريد كاسمه وهو الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه جمالية الدين استعرض فيها مراحل فهمه للتدين والتعبد وكيف أنها بدأت بالتصور المختصر ثم انتقل إلى إدراك بعض المفاهيم الحركية الإسلامية والدفاع عنها ومع ذلك يقول إنه لم يصل إلى اللذة الحقيقية للإيمان حتى أوقفه أحد مشايخه وأساتذته على حقيقة معنى الإله والتاله يقول بدأت المراجعة في حياتي كلية واكتشفت حقيقة أن هناك شيء اسمه حلاوة الإيمان ذوقا لا تصورا وحقيقة لا تخيل ثم بدأت أعود إلى القرآن فوجدت أني كنت بعيدا بعيدا جدا عن بشاشته وجماله وبدأت أعود إلى السنة فوجدت أني كنت أجهل الناس بأخلاق محمد عليه الصلاة والسلام وبدأت أراجع ما قرأته عن العقيدة فوجدت صفحات مشرقة مما كتبه السلف الصالح قد مررت عليها مرور الأعمى لمرور الكرام بسبب ما غطى بصري من فهوم سابقة حتى كأني لم أقرأ قط قلت لم تكن مفاجأتي علمية بقدر ما كانت وجدانية لقد كنت أقرأ عبارات المحبة والشوق والخوف الرجاء ولكن دون أن أجد لها شيئا من نبض الحياة بقلبي انتهى قوله لقد بيّنت دكتور فريد رحمه الله في كلامه بأنه لا يتهم المفاهيم التي كان عليها سابقا وإنما يقول إن ظروف التلقي كانت سيئة للغاية ولكي لا يكون الأمر غامضا فسأنقل لكم كلامه في شرح مفهوم الإله والتأله والتعبد يقول كلمة إله في أصل استعمالها اللغوي كلمة قلبية وجدالية أعني أنها لفظ من الألفاظ الدالة على أحوال القلب كالحب والبغض والفرح والحزن والأسى والشوق والرغبة إلى آخره أصلها قول العرب أليها الفصيل يأله ألها إذا ناح شوقا إلى أمه والفصيل ابن الناقة إذا فطم وفصل عن الرضاعة يحبس في الخيمة وتترك أمه في المرعى حتى إذا طال به الحال ذكر أمه وأخذه الشوق والحنين إليها وهو آنئذ حديث عهد بالفطام فناح وأرغى رغاء أشبه ما يكون بالبكاء فيقولون أليها الفصيل فأمه إذا هاهنا هي إلهه بالمعنى اللغوي أي ما يشوقه ومنه قول الشاعر ألهت إليها والركائب وقفوا ثم يقول وهكذا فأنت ترى أن مدار المادتين أليها ووليها هو على معاني قلبية ترجع في مجملها إلى التعلق الوجداني والامتلاء بالحب فيكون قول المؤمن لا إله إلا الله تعبيراً عما يجده في قلبه من تعلق بربه تعالى أي لا محبوب إلا الله ولا مرهوب إلا الله ولا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله إنه أشبه ما يكون بذلك الفصيل الصغير الذي ناح شوقاً إلى أمه إذ أحس بألم الفراق ووحشة البعد إن المسلم إذ يشهد أن لا إله إلا الله يقر شاهداً على قلبه أنه لا يتعلق إلا بالله رغبة ورهبة وشوق ومحبة وتلك العمر شهادة عظيمة وخطيرة لأنها إقرار واعتراف بشعور لا يدري أحد مصداق ما فيه من الصدق إلا الله ثم الشاهد نفسه ومعنى القلب لا تحد بعبارات ولا تحصرها إشارات ومن هنا كانت شهادة أن لا إله إلا الله من اللطافة بمكان بحيث لا تدرك على تمام حقيقتها إلا ذوقا ثم ينقل على ابن القيم رحمه الله تعالى كلاما في المحبة عجيبا عظيما يقول فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل فإذا خل منها فهو ميت لا روح فيه ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص بل هي نفس الإسلام فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله فمن لا محبة له لا إسلام له البتة بل هي حقيقة جهادة أن لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي يألهه العباد حبا وذلا وخوفا ورجاءا وتعظيما وطاعة له بمعنى مألوه وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى والمقصود من هذه القضية أن الإسلام لا يفهم إلا إذا فهمت حقيقة التعبد فيه وفهم الموقف أو الشعور أو الاعتقاد الذي يصاحب الإنسان توجاه ربه إذا أدى العبادات التي شرعها الله تعالى ولذلك يقول العز بن عبد السلام في قواعده المقصود من العبادات كلها إجلال الإله وتعظيمه ومهابته فهذا تصور إذا أدركه الإنسان وعرفه بشكل جيد فإنه سيقف على صورة معرفية لمحاسن الإسلام فيها أسمى معاني الجمال القلبي ومع ذلك فهي لا تغني عن التذوق العملي الحقيقي لهذا الجمال فإن الخبر ليس كالمعاينة وإن الإسلام طبيعة خاصة تختلف عن أي فكرة نظرية يعتقد بصحتها الناس فإن من يؤدي عبادة الله على الوجه الذي أراد ويحسن في ذلك مع علم وفهم فإن الله يهبه من جمال الحياة وحسن المعرفة ومن نور القلب ومن سعادة الروح ما لا يمكن أن يعبر عنه بكلام يكشف ما يجده كما قال من قال من العباد إن نجد من اللذة والسعادة ما لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف القضية المنهجية الثالثة محاسن الإسلام في براهينه إن من أهم ما يوقف الناظر المتأمل على محاسن الإسلام وجماله وبهائه وتميزه هو النظر في البراهين المثبتة لصحته ومقارنتها ببراهين أي فكرة أخرى على وجه الأرض إن دين الإسلام قد جاء مبرهنا على صحة كل أصوله ببراهين قوية متعددة متنوعة وهذا ما لا تجده في أي دين آخر ولا في أي توجه أو تيار أو مذهب أو طائفة فاسلك ما شئت من سبل البحث عن براهين صحة سائر الأديان وانظر إلى أصولها ومدى استقامة الدليل على إثباتها ثم عمل مثل ذلك في الإسلام فلن تجد أي عناء في الحكم بترجيح الإسلام على ما سواه وإذا أردنا أن نحدد قضية من أصول القضايا الدينية لتكون مثالاً للكلام السابق فلننظر إلى قضية إثبات صحة الكتب السماوية ففي الإسلام نجد أن البراهين التي يثبت بها علماء المسلمين صحة نسبة القرآن من جهة البلاغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحة نسبته من جهة المصدر إلى الله تعالى تفوق الحصر وتعي العادين بل إنك تجد في النوع الواحد من الأدلة المثبتة لصحة القرآن مؤلفات كثيرة وتحريرات بديعة وبراهين قاطعة مثل ما كتبه العلماء المتقدمون في باب إعجاز القرآن كالخطاب والجرجان والباقلان وغيرهم كثير بل لو لم يكن في ذلك إلا كتاب النبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز لكفى مع العلم بأن باب الإعجاز القرآني ليس إلا بابا واحدا من أبواب الاستدلال على صحة القرآن الكريم وكذلك الأمر في المؤلفات التي كتبت في حفظه وجمعه وتواتره وقرائه ونقلته وإذا قارنت ذلك بأشهر كتاب سماوي آخر وهو ما يعرف بالكتاب المقدس فستجد مفارقة عظيمة في إثبات النص الأصلي وحفظه وكذلك لو انتقلت إلى الإطار اللاديني فإنك إذا نظرت إلى البراهين التي يستدلون بها على صحة أصولهم فستجد إفلاسا عجيبا فإن غاية ما لديهم في باب الإثبات نظريات مختلفة متضاربة لا تكاد تثبت على شيء محدد وجمهور عملهم إنما هو متوجه إلى باب النفي وهدم معتقدات الآخرين ببث الشبهات والإشكالات والاعتراضات وأما المنظومة الإثباتية فهي هشة وكثير من الملحدين أصلا ليس لديهم إثبات بل غاية ما لديهم النفي فهم يتغذون على الشبهات ودينهم إذا لم يأكل من رمم الشبهات فإنه لا يمكن أن يكون شيئا مذكورا والحاصل أن هذه القضية المنهجية من أبرز محاسن الإسلام الكبرى التي تثبت صحته، وإذا ثبتت صحته فيمكننا أن نثبت محاسنه التفصيلية من نصوصه وأخباره. القضية المنهجية الرابعة وضوح عقيدة الإسلام في الخالق. لا يوجد تراث لأمة من الأمم المتدينة فيه تعظيم للإله الخالق سبحانه وتنزيه له عن النقائص وعما لا ينبغي أن يكون عليه كما يوجد في القرآن الكريم وفيما صح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الأحاديث ولذلك فإن الإسلام قد تميز على سائر الديانات بوضوح العقيدة في الإله من جهة الكمالات المتعلقة به ولذا فإن العقل لا يجد تكلفا في قبول لأتقاد الإسلامي في الله سبحانه بخلاف الخرافات والأساطير الموجودة في تصورات كثير من البشر توجاه الإله وهذه القضية من أظهر القضايا في دين الإسلام والاستدلال عليها لا يحتاج إلى كبير عناء فالقرآن من أوله إلى آخره تمجيد وتعظيم وتنزيه لله سبحانه وتعالى والسورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في القرآن هي السورة التي تبدأ بحمد الله والاعتراف بأنه رب العالمين وأنه مالك يوم الدين وتبين العلاقة بين المخلوق والخالق بالتعظيم الذي ينبغي للخالق بأنه لا يعبد إلا هو ولا يستعان إلا به فهذه أعظم سورة وكذلك أعظم آية في القرآن كلها متعلقة بالإله من أولها إلى آخرها وهي آية الكرسي ولا يوجد عند أمة من الأمم المتدينة تعظيم للإله بمثل ما في آية الكرسي ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في القرآن سورة تعدل ثلث القرآن وهي سورة الإخلاص وإذا تأملت فيها وجدت أن جميع السورة إنما هي تعظيم وتنزيه لله سبحانه وتعالى بينما إذا نظرت فيما جاء عن الخالق في سائل الأديان فلن تحتاج إلى كبير جهد لتدرك الفارق بين الإسلام وبين غيره بل إن المقارنة بين الإسلام وغيره في هذا الباب ظالمة فإذا كانت اليهودية والنصرانية التي أحظى الديانات بتراث الأنبياء بعد الإسلام قد وصفت الإله ونسبت إليه ما لا يليق به فالنقص في غيرها أولى وأحرى ففي تراث اليهود إخبار عن الله بنادمه على بعض الأفعال وبصراعه مع يعقوب عليه السلام تعالى الله وبعجزه عن معرفة مكان آدم عليه السلام بعد أن أكل من الشجرة ثم اختبأ وبالنسبة للنصارى فإن غموض فكرة الإله والتكلف الموجود فيها يحتاج إلى عناء شديد ليدرك ويتصور فضلا عن تأليههم المسيح عليه السلام مع اعترافهم بأنه ناشأ في رحم أمه عليه السلام والدعائهم أنه صلب ومهما كانت المبررات فكيف يليق بالإله العظيم أن يصلب على عمود ويستنجد بأصحابه كما يقولون وفي الديانات غير الإبراهيمية إذا نظرت مثلا إلى البوذية والهندوسية والزرادشتية والكنفشيوسية وغيرها من الديانات ستجد البون الشاسع الهائل بين التصور الإسلامي النظيف المعظم للإله وبين التصورات الوثنية في تعدد الآلهة أو الغموض في فكرة الإله وكما قال محمد مزروعة إذا أردت أن تعرف صلاحية الدين عند قوم فانظر أولا إلى عقيدتهم في الله ومن جمال وكمال عظمة التصور الإسلامي عن الله سبحانه وتعالى أنه لا يقتصر على مجرد الوصف الكامل بل هذا الوصف يقتضي التعبد والخضوع والذل لله سبحانه وفي ذلك يقول فريد الأنصاري رحمه الله فالربوبية إذن لمن عرفها حقا وصدقا جالبة للمحبة لأنه إذا كانت الإلهية وهي عقيدة المحبة وما تفرع عنها خوفا ورجاء كما أصلنا مبنية على الربوبية فمعنى ذلك أن الربوبية ذات خواص تجلب إليها القلوب فدأ لهها انتهى قوله إذن فهذا الاعتقاد الإسلامي العظيم في الله سبحانه وتعالى على وضوحه وجلاله وجماله فإنه يزداد جمالا على ذلك باقتضائه التعبد لهذا الإله سبحانه وتعالى ومن المعلوم عند علماء الاعتقاد الإسلامي أن من أهم الأدلة القرآنية في الرد على المشركين الاستدلال بتوحيد الربوبية وبصفات الله تعالى وكماله على توحيد الإلهية واستحقاق الله له ونتيجة لما سبق من جمال هذه العقيدة الإسلامية فإن هذا الأمر ولد عند المسلمين ارتياحا كبيرا في تصورهم عن الله تعالى فهم لا يواجهون التحديات في أصل اعتقادهم ولذلك أيضا نجد أن مثير الشبهات والإشكالات في الغالب يوجهون سهامهم إلى أحكام عملية فرعية في الشريعة الإسلامية ولا يتوجهون إلى أصل تصور المسلمين واعتقادهم في الله تعالى لأنه تصور لا مدخل للطعن ولا للتشكيك فيه وهو تصور موافق للعقل ولمقتضايات الفطرة والنفس الإنسانية وإذا اتضحت العقيدة في الله سبحانه وتعالى فإنما وراء ذلك من أمور الاعتقاد سهل واضح بين يسير بخلاف ما لو كان الأصل غير واضح فإن تفاصيل الاعتقاد الأخرى سيكون فيها إشكال فمثلا الإيمان بالمعجزات هو فرع عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى القدير العليم الحكيم مسبب الأسباب وخالق الكون وقوانين الكون وكذلك الإيمان بأصل نبوة هو فرعا عن الإيمان بالله تعالى الكامل العظيم العليم الحكيم فالإيمان بالله أصل الأصول وهو على عظمته وخطورته ومركزيته فإن بيانه في الإسلام واضح قريب سهل جميل والحمد لله الذي هدانا لهذا القضية المنهجية الخامسة وجود النموذج العملي المطبق للحقائق النظرية إن من محاسن الإسلام أنه دين جاء بالمعرفة وبتطبيقها وأوصى بالأخلاق وفرض الشرائع وقدم النموذج الذي التزمها وطبقها وذلك كله متمثل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية وسيرته التي نجد فيها الامتثال التام والالتزام الكامل لما أمر الله به في القرآن ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن رواه مسلم إن وجود نموذج العملي المطبق لشرع الله تعالى الملتزم بأوامره غاية الالتزام لمن أهم ما يسهل على النفوس تطبيق الإسلام والالتزام به ويبعد عنها النظرة الأفلاطونية الخيالية وإذا عاش الناس الإسلام عمليا وفعلوه في حياتهم السلوكية فسيشعرون بقيمته وحلاوته ويستغنون به وسيدركون حق الإدراك معنا محاسن الإسلام ولعل من الحكمة الإلهية في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم من البشر تسهيل عملية الامتثال والاقتداء والتطبيق فلو كان من غير البشر لقيل إن من طبق تعاليم الله إنما هو كائن له خصائص مختلفة عن صفات البشر تعينه على هذا الامتثال وتسهيله عليه وقد ابتلى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأنواع من الابتلاءات الشديدة حتى يدرك الناس أن هذا الرجل الشريف العظيم وإن اختاره الله تعالى واصطفاه واجتباه بالنبوة إنما هو بشر يعرض له ما يعرض للبشر من المراض والتعب والمصائب وغير ذلك ولم يمنعه ذلك من أن يكون أعبد الناس وأتقاهم لربه وأشدهم له خشية ولأجل ذلك كله فإننا لا نجد شخصية في التاريخ قد عدتني بأقوالها وأفعالها وسجلت سيرتها ودقائق أحوالها كمثل مع توني بذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم بل قد استحدث المسلمون لأجل حفظ سيرته وأقواله وهديه بل وحتى سكتاته قانونا علميا لا مثيل له في حفظ الأخبار والمرويات وهو علم الحديث إذ إن هذا العلم لم يستحدث ولم يبتكر إلا لأجل المحافظة على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وأقواله من أن يدخلها التغيير القضية المنهجية السادسة مقارنة الإسلام بالجاهلية إن من أهم ما يبرز محاسن الإسلام ويرسخها في النفس النظر إلى أحوال الجاهلية سواء ما كان منها متقدما على الإسلام أو متأخرا عن بدايته ورؤية الجانب الإصلاحي العظيم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرا ومتجذرا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد إننا لا نتحدث عن نتائج إصلاح عادي يقارب نتائج الحركات الإصلاحية القديمة والحديثة بل نتحدث عن حالة استثنائية فريدة في التاريخ عبر عنها أحد أشهر المؤرخين في التاريخ الحديث والديرانت مع كونه لا يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم بل وقد أثار شيئا من الطعونات والتشكيكات فيه غير أن سطوة الحقيقة عليه أبت إلا أن تخرج منه هذا الكلام وذلك في كتابه قصة الحضارة حيث قال وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمدا كان أعظم عظماء التاريخ فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهماجية حرارة الجو وجدب الصحراء وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانيه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله وقل أن نجد إنسانا غيره حقق كل ما كان يحلم به انتهى قوله أما أبو الحسن الندوي رحمه الله فقد تكلم عن المنهج الإصلاحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر العصر الجاهلي وأسهب طويلا في الكلام عنه ثم قال لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر وقد كان هذا الانقلاب غريبا في كل شيء كان غريبا في سرعته وكان غريبا في عمقه وكان غريبا في ساعته وشموله وكان غريبا في وضوحه وقربه إلى الفهم فلم يكن غامضا ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ولم يكن لغزا من الألغاز انتهى قوله وقد وقفت مؤخرا على كتاب مقاصد القرآن من تشريع الأحكام للمؤلف الدكتور عبد الكريم حامدي اعتنى فيه بإبراز الجوانب الإصلاحية التي جاء بها القرآن والتي أحدث بها التغيير الهائل في المجتمع مثاله مقصد القرآن في تحقيق الصلاح الفردي كإصلاح العقل والاعتقاد والتفكير والنفس والجسم ومقصد القرآن في تحقيق الإصلاح الاجتماعي كالإصلاح العائلي ونظام الزواج والزوجية والطلاق والإصلاح المالي ونظام الكسب والمحافظة على المال والإصلاح العقابي والإصلاح السياسي إلى آخره من الأمور التي ذكرها في الجوانب الإصلاحية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن لطيف ما جاء في ذلك أيضا ما كتبه محمد عبدالله دراز رحمه الله في مقدمة كتابه نظرات في الإسلام بعد أن ذكر فتوحات الإسكندر وتجربة الاستعمار ثم قارن ذلك برسالة الإسلام قال أما رسالة الإسلام فإنها حين بسطت جناحيها في أقل من قرن على نصف المعمور كانت كأنما أنشأته خلقا آخر لقد بدلته من أوطانه المتفرقة وطنا واحدة ومن قوانينه المختلفة قانونا واحدة ومن آلهته المتعددة إلها واحدة لقد نفذت إلى جوهر نفسه فحولته تحويلا وبدلت أسلوب تفكيره تبديلا بل عمدت إلى لغته فأضافت لغة القرآن لسانا إلى جانب لسانه وكثيرا ما أنسته لسانه الأصيل وجعلت لسان الإسلام هو لسانه الوحيد ثم هي لا تزال في كل عصر تتلقى معاول الهدم من أعدائها فتكسر هذه الصدمات على صخرتها وهي قائمة تتحدى الدهر وتنتقل من نصر إلى نصر فليحاول الباحثون ما شاءوا أن يعرفوا مصدر هذه القوة الغلابة وهذا الانتصار الباهر إن هذا النجاح ليس مرده في نظرنا إلى سبب واحد من الأسباب ولا إلى فضيلة واحدة من الفضائل لقد تضافرت عليه شخصية الداعي ومنهاج دعوته وشخصية الأمة التي تلقت تلك الدعوة وطريقة الدعوة نفسها ومن وراء ذلك كله كلاءة الله ورعايته لهذه الرسالة حتى بلغت كمالها ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بصاحب الرسالة ثم ما يتعلق برسالة نفسها ثم انتقل إلى التشريع الإسلامي وعلى صعيد مقارنة الإسلام بشيء من الجاهلية الحديثة فإننا إذا نظرنا إلى العلم الطبيعي ومكتشفاته الهائلة التي جعلت كثيرا من المغالين فيه يعدونه المنافس الأوحد للأديان بل المتغلب عليها ويفخرون بأنه أصلح أحوال البشرية وتقدم بها عما كانت عليه قبل ذلك ولا يفتأون من ذكر الحالة التطورية المعاصرة التي انتقلت إليها البشرية بعيدا عن أودية القرون الوسطى السحيقة ومع ذلك فإننا عند التدقيق نجد أن هذه النهضة العلمية الطبيعية إنما هي نهضة جزئية متعلقة بمجال معين وهو المجال المادي فهي نهضة علمية مادية بحتة متعلقة بما يخدم الإنسان في حدود عيشه في هذه الحياة من جهة الرفاهية الحسية فقط ولكن ليس لها أثر إيجابي على الإنسان من جهة قيمه وأخلاقه ولا من جهة شؤونه الاجتماعية والأسرية بل ولا من جهة الإجابة عن أسئلته الغائية الكبرى فهذا كله بعيد كل البعد عن النهضة العلمية الحديثة وآثارها بل إنها ساهمت بشكل أو بآخر في الانحطاط البشري في الجوانب المتعلقة بالأخلاق والقيم والروح والغاية ليس لأنها تؤدي بالضرورة إلى الانحطاط بل بسبب عدم الاتزان الذي خلفته في عقول الناس الذين لم يكونوا ينظرون إليها إلا بعين واحدة هذا فضلا عن أن المجال الذي ارتفعت فيه هذه النهضة وهو مجال الحس والمادة والتقدم البشري المحسوس قد أتى بالكوارث على البشر فما قتل الملايين في الحربين العالميتين التي لا يكاد يوجد لها نظير ولا مثال في تاريخ البشرية وما الأجنة التي شوهت جراء تلك الحروب إلا بسبب ما أنتجه العلم الحديث من أسلحة الدمار الشامل حين صارت بأيدي أناس لم يراعوا نهضة الإنسان الأخلاقية كما راعوا النهضة المادية جاء في كتاب انتحار الغرب لريتشارد كوك وكريس سميث وتضاعف الشك في العلم على نحو ضخم وتعمق أتيجة لفضائع هيروشيما وقد أعطى تبريرا كافيا في أزمة صواريخ كوبا في عام 1962 وصدين من أن الترسانات النووية كانت تستطيع أن تدمر الحضارة الإنسانية وقد عبر العلماء البارزون بصوت عال عن شكوكهم وقال أينشتاين بعد هيروشيما لو كنت أعرف أنهم كانوا سيعملون هذا لكنت عملت صانع أحذية انتهى قولهم وذكر ريتشارد تارناس في كتابه آلام العقل الغربي شيئا من الانحراف القيمي المعاصر المرتبط بالعلم المادي قائلا وقل ظل الترابط الوثيق بين البحث العلمي من جهة وسائر المؤسسات والهيئات السياسية العسكرية والهيكلية التعاونية يكذب صورة العلم الذاتية التقليدية المتمثلة بالطهارة المحايدة أما الإيمان بامتلاك العقل العلمي للقدرة الفريدة على الوصول لحقيقة العالم فقد بدى ليس فقط ساذجا معرفيا أبستمولوجيا بل وخادما بوعي أو بدونه أغراضا سياسية واقتصادية محددة متيحا في الغالب فرص تجنيد مقادير هائلة من الموارد المادية والفكرية لخدمة برامج الهيمنة الاجتماعية والبيئية فالاستغلال العدائي الجشع للبيئة الطبيعية التلوث الناجم عن التسلح النووي التهديد بحصول كارثة كوكبية ذلك كله لا ينطوي إلا على إدانة العلم وتجريمه شجب العقل الإنساني بالذات هذا العقل الذي بات على ما يبدو أسير لا عقلانية الإنسان المفضية حتما إلى تدمير الذات إن الإيمان المتفائل بإمكانية الخروج من مآزق العالم عبر التقدم العلمي والهندسة الاجتماعية المجردين قد خاب مرة أخرى يقف الغرب على عتبة الكفر لا بالدين هذه المرة بل بالعلم وبعقل الإنسان المستقل انتهى مختصرا وقد تنبه الطائفة من الفلاسفة والعلماء إلى أن العلم الطبيعي لم يتعامل مع الإنسان بالنظرة التكاملية وإنما اختزل مكوناته في نظرة مادية جزئية ومن أشهر المفكرين الذين عتنوا بإبراز النقص في النظرة المادية للإنسان المفكر المصري عبدالوهاب المسيري رحمه الله تعالى وقد اعتنى بذلك عناية خاصة ونثر نقوداته على النظرة المادية للإنسان في مواضع كثيرة من كتبه بل وأفرد كتابا في ذلك وهو الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان وفي كتاب آلام العقل الغربي لريتشارد تاباس ذكر أن عددا غير قليل من المراقبين للتطورات العلمية يشعرون بأن من شأن مثل هذه التطورات أن تكون نذر شؤم ممهدة لقلب القيم الإنسانية رأسا على عقب وخلاصة الأمر أنه إذا كان أنصار العلم الطبيعي المغالون فيه يقارنون بين حال البشرية بعد النهضة الألمية الحديثة وقبلها فإن لنا تمام الحق أن نقارن بين حال البشرية وخاصة في المنطقة العربية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته فالانتقالة الإصلاحية الإسلامية الهائلة بفضائها الرحب وسعتها وشموليتها لا تقارن أبدا بالنهضة العلمية الحديثة التي اختزلت الإنسان في إطار مادي ضيق وشتان بين المقارنتين بين مقارنة تختزل الإنسان وتفككه وبين مقارنة تنظر إلى الإنسان نظرة تكاملية في كل جوانبها وأما التأخر الذي نحن فيه الآن فليس هو بسبب الالتزام بتعاليم الإسلام وإنما سببه البعد عن هذه التعاليم فليس في الإسلام ما يعارض النهضة بالعلم الطبيعي ولا التنمية التي يمكن أن ترتقي بالإنسان في العمارة والمادة ولكننا نستمد من الإسلام المعايير الأخلاقية الحاكمة للحضارة المادية ونستمد منه الجانب الروحي والغائي وننهض به بالشمولية والتكامل الذي يحتاجه الإنسان حتى لا ينهض مشوها على ساق واحدة القضية المنهجية السابعة التجديد المتزن إن الاتزان والتوسط والاعتدال عند حملة الأفكار التجديدية الهادمة لما قبلها يعد أمرا صعبا فإن مواجهة الأفكار البالية التي يتعصب أصحابها لها مع بطلانها في نظر معارضيها وانتهاء صلاحية أتناقها تدفع المجددين الناقمين على هذه الأوضاع السائدة إلى نوع من المغالات في أفكارهم الجديدة وإلى المبالغة في ردة الفعل توجاه الأقوال والأفكار القديمة حتى ولو كان شعار هذه الحركات التجديدية تسامحية فإنك ترى في أحداث التاريخ ما يؤكد نسيان هذه الشعارات من قبل حملة الأفكار التجديدية في خضم مواجهتهم لما ثاروا عليه من القديم ولكنك إذا نظرت إلى الإسلام الذي جاء هادما لأصول الجاهلية مستبدلا إياها بنظام تشريعي واعتقادي شمولي تام فإنك تجد فيه الاهتمام البالغ باعتدال أتباعه وبتوجيههم للاتزان وبإبعادهم عن المبالغة أو الزيادة في الأخذبه بل وفيه التواعد والتشديد على من يخالف روح الاعتدال والاتزان كما في قوله عليه الصلاة والسلام إياكم والغلو أخرجه النسائي وقوله ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه أخرجه البخاري وقوله هلك المتنطع خرجه مسلم وغير ذلك من النصوص الكثيرة ومما يزيد هذا الأمر وضوحا أنه قد وقع بالفعل من بعض الفرحين برسالة الإسلام أول ما ظهرت أن دفع هذا الفرح بالدين الجديد إلى مظاهر من السخط على الدنيا والبعد عنها وحرمان النفس من طيباتها مع الانقطاع للتعبد وكان هذا بعد ظلمات الوثنية والشرك التي كانت سائدة في الجزيرة العربية فكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو النموذج العملي المطبق لمراد الله في أرضه تجاه هذا الحماس للفكرة الجديدة أن كبح جماحهم وبث روح الاعتدال فيهم ومن أظهر الأمثلة وأصحها على ذلك حادثة الثلاثة الذين أراد أحدهم أن يعتزل النساء فلا يتزوج وقرر الآخر أن لا يأكل اللحم وهجر الثالث النوم على الفراش كل ذلك بنية حسنة وقصد تعبدي وإرادة الزهد في الدنيا وبدافع حماسي لهذه العقيدة الإسلامية التي أنقذتهم من الجاهلية المظلمة فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف أمام حماسهم بقوة مذكرا إياهم بالاعتدال والاتزان وذلك بالسير على سنته واتباعه فقال أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني أخرجه البخاري ومسلم القضية المنهجية الثامنة محاسن الإسلام في الأبواب التي يلج منها المشككون فيه إذا تأملنا في الشبهات المثارة ضد تشريعات الإسلام وأحكامه العملية فإننا نجد أنها تمر في الغالب من ثلاثة أبواب وهي الجهاد والمرأة والحدود وإذا أمعنا النظر في كل باب من هذه الأبواب من جهة مقاصدها التشريعية وتفصيل الأحكام المتعلقة بها فسنجد فيها من الحكمة والحسن والجمال ما يصح لنا أن نفخر به لا أن نواريه ونخجل منه ولنأخذ على سبيل المثال ما يتعلق بالجهاد والقتال في الإسلام فمن المعلوم أن أبرز ما يتهم به الدين الإسلامي في هذا العصر أنه دين وحشي وأنه دين عنف وسفك للدماء لا دين رحمة ورفق وعدل وأنه لا قوانين تضبط محاربيه وتدفعهم إلى التعامل الأخلاقي وفي الحقيقة فهذه نظرة ظالمة منقوصة منقوضة لا ترتبط بتعاليم الإسلام الأصلية ولا بنموذج العملي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فإن أصحاب هذه الدعاوى يقعون في أحد إشكالين رئيسين الأول تحميل الإسلام وزر بعض المنتسبين إليه المخالفين لتعليماته والثاني الاختزال والانتقاء غير الموضوعي من نصوص الوحيين ومن سيرة رسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالجهاد وهؤلاء الطاعنون يؤسسون نظرتهم التشكيكية في الغالب على بعض الممارسات القتالية المعاصرة التي يقوم بها أناس من المنتسبين إلى الإسلام فيطعنون في الإسلام بناء على هذه الأفعال بينما إذا أردت أن تحاكم هؤلاء الطاعنين إلى ممارسات قتالية أخرى متعلقة بالجانب الإلحادي أو العلماني أو النصراني أو اليهودي فإنهم يرفضون تحميل الإلحاد أو العلمانية أو النصرانية أو اليهودية وزر الجرائم الحربية التي تصدر من بعض المنتسبين إلى هذه الأفكار والديانات بحجة أن هذه نماذج لا تمثل الثقافة العلمانية ولا الفكر الإلحادي ولا تسامح أديان الكتابيين ونحن نقول ليس كل من قاتل باسم الإسلام يمثل الإسلام وليس كل من رفع سلاحه منتسبا إلى الشريعة فإنه يمثلها حقا غير أن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم في هذه القضية هو أن أول من ينكر على من يخالف تعاليم الإسلام في القتال هم المسلمون أنفسهم وأما المخالفات القتالية التي تقع من المنتسبين إلى الثقافات والأديان والأفكار الأخرى فإنك لا تجد من الإنكار والتشنيع وتبريئة تلك الأفكار من الممارسات الخاطئة التي يقوم بها بعض المنتسبين إليها بالقدر الذي نجده عند المسلمين وإن كان فيهم من ينصف فينتقد ولا شك أن التقييم الحقيقي لقضية الجهاد في الإسلام إنما يكون عبر دراسة أصوله الكتاب والسنة والنظر في الممارسة الجهادية العملية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو المعيار التام الكامل لتقييم قضية الجهاد في الإسلام ثم تاتي التجارب القريبة من الزمن النبوي في العهد الراشدي لتمثل أكمل صور الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم من دون الدعاء العصمة فيها وقد أفردت دراسات في ذكر محاسن الإسلام في الحرب وأخلاق الحرب منها كتاب أخلاق الحرب في السيرة النبوية لحسن الطيلوش وهو صادر عن مكتبة الأمة ومنها كتاب أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية لناصر محمد محمد جاد وهو صادر عن دار الميمان وكل الكتابين فيهما استعراض لأخلاقيات الحرب في سيرة الرسول والقوانين الضابطة للمسلم وإذا أردنا أن نضرب بعض الأمثلة على هذه القوانين الضابطة لأخلاقيات الحرب في الإسلام فلننظر فيما جاء في احترام العهد مع الكفار والتغليظ في الاعتداء على المعاهد بما لا نظير له فمع أن منع قتل المعاهد موجود في كثير من الثقافات والأديان والقوانين لكن العجب أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في هذا الباب بأغلى وأعلى ما يطمحون إليه وهو الجنة فيقول لهم من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة أخرجه البخاري يا الله ما هذا التغليظ الشديد والوعيد المخيف على قتل كافر نعم إنه العهد واحترام المواثيق في الإسلام حربا وسلما ومن أعجب ما جاء في احترام المواثيق في الحرب الإسلامية ما جاء في صحيح مسلمين أن حذيفة رضي الله عنه وهو في طريقه إلى المدينة تعرض له ولأبيه المشركون وحبسوهم ثم أطلقوهم شريطة ألا يشاركوا في الحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فوافقوا لينجوا من الأسر وهم في حال أشبه ما تكون بالإكراه فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجداه في التجهيز لمعركة بدر فلما أراد أن يخرج معه وأخبراه الخبر قال عليه الصلاة والسلام إن صرف نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم أخرجه مسلم ولم يخرجهما معه فهذا كان سبب عدم حضور حذيفة لمعركة بدر وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدمين فالمحافظة على العهد مع كل هذه المعطيات لا تجدها إلا في الإسلام وهكذا الحال إذا نظرنا في البابين الآخرين المرأة والحدود فإننا نجد فيهما من المحاسن والحكم ما يغفل عنه الطاعنون أو يكتمونه الخاتمة إن أمر الإسلام أعظم من أن تبين محاسنه وخصائصه في مثل هذه العجالة غير أني أسأل الله سبحانه أن يبارك في هذه المادة وأن يغفر لي التقصير والزلل في النية والقول والعمل وصل اللهم ربنا وبارك وسلم على عبدك ورسولك وخير خلقك محمد بن عبد الله تم الكتاب بفضل الله وفي الختام نذكركم أن هذا الكتاب تم إنتاجه صدقة جارية على روح الدكتور أبو العطى النادي أبو العطى رحمه الله غفر الله لنا وله ولجميع المسلمين